بناء الطبقة الوسطى بين الواقع و المستحيل /
من المعروف في علم الاجتماع أن بناء طبقة جديدة و استحداثها في مجتمع مهلهل تصل نسبة الأمية فيه إلى ٨٠% و نسب الفقر إلى أكثر من ٨٠% ، و كان حديث الأمم المتحدة و تقاريرها عن المجتمعات المتخلفة في أفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية في خمسينيات القرن الماضي مرجعه إلى التحدي الأعظم فيما شكله الثلاثي البشع (الفقر – الجهل – المرض)
هذا الثلاثي البشع كان أحد معالم الحياة المصرية و الأفريقية و العربية ، و كان تغييره يكاد يكون مستحيلاً و لعل حادثة أطفال " الكوليرا " الذين قضوا نحبهم بعد أن عجزت وزارة الصحة في العهد الملكي عن توفير لقاح ببضعة آلاف من الجنيهات لتوفير اللقاح و إنقاذ حياة أطفال لا حيلة لهم و لربما كانت هذه (البضعة آلاف من الجنيهات) مجرد إنفاق ليلة لإحدى الأسر الاحتكارية الإقطاعية لحفلة من حفلاتها.
راح مئات الأطفال في دولة يحكمها الاحتكار و ينتشر بين فئات شعبها الفقر و الحفاء و الأمراض المستوطنة ، فكيف و الأمر كذلك بناء طبقة يكون لها القدرة على حمل هذا المجتمع البائس و نقله إلى رحاب و آفاق التطور و المدنية.
هذا كان هو التحدي الأعظم و الحقيقي الأول الذي واجهته الثورة المصرية الوليدة و هى تسعى لبناء دولة حديثة خاصة بعد أن بذلت جماعات المصالح و أعوان المستعمر و أتباع الجماعات الإرهابية و غيرها التي قامت بمحاولات لا حدود لها لعرقلة البناء الاجتماعي و الاقتصادي العام و الضروري و كل خطوة خطتها الثورة في هذا الاتجاه ، و مع ذلك لم تستطع هذه القوى مجتمعة وقف مسيرة و مخططات بناء الدولة الحديثة و التي كان عمادها بناء الطبقة الوسطى.
و لما فشلت أعمال و أساليب جماعات المصالح و الأتباع لوقف هذا البناء الذي حلمت به جموع الشعب المصري ، تدخل الاستعمار بوجهه السافر البشع لتحقيق ما عجزت عنه (جماعات المصالح و الأتباع).
كانت أهم وسائل الثورة الوليدة لبناء المجتمع الجديد عوضاً عن المجتمع الأمي الفقير المتهالك الذي يسيطر عليه " الثلاثي البشع " بناء المشروعات الضخمة القادرة على التغيير الجذري لحياة المصريين ، فكان مشروع السد العالي ، الحلم الذي راود الشعب ردحاً طويلاً من الزمان ، فذهبت الثورة إلى مؤسسات التمويل الدولية " البنك الدولي" من أجل الحصول على قرض لبناء السد العالي ، و قد رفضت بعد مراوغات و منازعات طويلة وصلت إلى حد الإهانة للدولة المصرية و السخرية من اقتصادها الذي أدعوا أنه لا يستطيع بناء مشروع بهذا الحجم الضخم.
و كل ذلك من أجل إفشال الثورة و تثبيط همم المصريين في الانطلاق نحو البناء و التطوير و هو هدف استعماري دائم ، فكان رد الثورة المصرية على هذه الإهانة هو تأميم قناة السويس كونها ملك لمصر و المصريين و كونها أحد ممتلكات مصر التي بنتها بعرق و دماء أبنائها بعد أن جاء الاستعمار ليسيطر عليها و يسرقها و يحولها لخدمة مصالحه و أغراضه كمقدمة لاستعمار البلاد من أقصاها إلى أقصاها ، فجاء الرد الاستعماري على تأميم مصر لقناتها في عدوان سافر إجرامي " العدوان الثلاثي".
و قد تمثلت أهداف هذا العدوان كما كشفت وثائق المعتدين أنفسهم فيما بعد فيما يلي :-
١- القضاء على الثورة المصرية الوليدة و إعادة احتلال مصر.
٢- الاستعانة ببعض رجال العهد الملكي البائد بتشكيل حكومة مصرية جديدة.
٣- قتل جميع الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة.
٤- نقل الأسر اليهودية المصرية بأموالها و ثرواتها من منطقة بورسعيد التي كانوا قد تجمعوا فيها تحت جنح قبل نشوب العدوان بفترة قصيرة ليقوم الأسطول الحربي الفرنسي بنقلهم من بورسعيد إلى إسرائيل مباشرة كما بينت الوثائق الغربية للعدوان الثلاثي.
و كان لصمود الشعب المصري العظيم في مواجهة قوى العدوان أثره البالغ في إفشاله و منعه من تحقيق أهدافه و ربما كان النجاح الوحيد لقوى العدوان هو نجاحه في نقل العائلات المصرية اليهودية و ما جمعته من أموال إلى تل أبيب ، و هي عملية يمكن أن تقوم بها عصابة محترفة و ليس قوى عظمى ، و رغم اعتراف قوى العدوان لحقيقة تهريبها للأسر اليهودية المصرية ، إلا أن أتباع المستعمر مازالوا حتى هذه اللحظة يتهمون كذباً أن ثورة يوليو هي من طردت اليهود المصريين و هذا محض كذب فضحته وثائق العدوان الثلاثي على مصر.
و هكذا دخلت الثورة المصرية إلى منعطف حاد و تحدي خطير و هي تعد العدة و تبني المشاريع و تواجه صراعاً متعدد الأوجه و هي تبني الطبقة الوسطى التي ستحمل على عاتقها الصمود و البناء و مواجهة الأعداء ، الأمر الذي جعل من المستحيل واقعاً فرض نفسه على الجميع بعد الانتصار على قوى العدوان و أعوانهم.
في الحلقة القادمة/
معالم ظهور الطبقة الوسطى التي حملت لواء و بناء النهضة المصرية الحديثة ..
دنيا عوض عبده